شعر البكائيات فى صعيد مصر”..دراسة بحثية للدكتور أحمد جريو
“شعر البكائيات فى صعيد مصر – الأبعاد النفسية والاجتماعية والمضامين التربوية ـــ رؤية تحليلية”، كان عنوان الورقة البحثية التي شارك بها الدكتور أحمد سعد جريو، عضو لجنة التراث الثقافي غير المادى بالمجلس الأعلى للثقافة، فى الملتقى الأدبي والثقافي الدولي الأول والذي عقد في القاهرة فى الفترة من 20 : 23 أكتوبر الجاري، تحت عنوان : “سلطة اللغة والأداء ما بين الشعبي والفصيح شعر الحب والغزل نموذجا “.
قال الدكتور أحمد سعد جريو، إن فن العدودة يعد أهم فنون الحزن التى تميز بها صعيد مصر، أي البكاء على الميت ورثائه، ووصف طعم الحياة بدونه، إنك تجد ذلك الفن التلقائى الشعبى تتداوله ألسنة النساء فى المآتم، تتناقلنه وتتوارثنه عن آمهاتهن وتورثنه لبناتهن جيلا وراء جيل. فالعدودة الصعيدية أو العديد علي الميت المتوفي هي ميراث الحزن الشعبي.
أضاف أن العدودة هي فن شفاهي أشتهر بين أهل الصعيد، وهى كلمات مقفاه تنشدها النسوة العجائز في صعيد مصر في الجنازات بنغمة مميزة. ومن الناحية الفولكلورية، فالعدودة هي بحر واسع من الصور الأدبية والفن الموسيقي الذي يضرب بجذوره لآلاف السنين في صعيد مصر، وأهم ما يميزها هو تلك الصور الشعرية الرهيبة التي تحملها كلماتها، فتجد كلمات العدودة أحيانا وقد تم وضعها علي لسان المتوفي نفسه، ودائما ما يتم تصوير الموت كعدو غادر أو كطير كاسر قام بإختطاف ضحيته في غفلة من أهله.
أشار “جريو” أن العدودة اختصت بها النساء دون الرجال وهى أبيات شعرية لا يعرف كاتبها أو مؤلفها ولكن النساء حفظنهن وغناهن ، وأصبحت تراث شعبى متوارث، ولكنه بدأ في الاندثار بعد أن انتشر التعليم والثقافة والوعى في القرى بين البنات وسعت القرى في تحقيق تنميتها المستدامة .
وتناول الدكتور أحمد سعد جريو، تأثير العدودة الشعبية الصعيدية على المتلقى من حيث الابعاد النفسية والاجتماعية والتربوية، وكذلك علاقة انتشار مساحات التعليم والوعى عند الفنيات باستمرار العدودة أو انقطاعها وتحقيق التنمية المستدامة
وقال إن مكتبة الدراسات الشعبية شهدت في العشرين عاما الأخيرة جهود عدد من الباحثين الذين تناولوا العدودة في صعيد مصر ( وهم من صعيد مصر )، مشيرا إلى اعتماده على جهودهم الاعتماد الأكبر ، دون أن يغفل جهود الأساتذة الكبار الذين اسهموا بنصيب وافر في هذا الصدد.
وخوب تعريف العدودة ذكر “جريو”، تعريف الشاعر القنائي عادل صابر، حيث أوضح أن فن العدودة هو ثمار أشجار الحزن الذى نما وترعرع في قلوبنا بعد أن رويناه بدموعنا على الراحلين من الأهل والخلاّن والأصدقاء. لافتا إلى أن فن العديد فن شعبي خالد خلود الموت والأحزان ، وكلما أوغلت في الجنوب كلما ازدادت العدودة قوةً ورصانة وكلما كثرت طقوس الحزن وطال أمدها.
وأشار الى تعريف الشاعر عبدالستار سليم، لفن العدودة بأنه فن لا تقوله الا النسوة في صعيد مصر، وهو الشق الشعبي في رثاء الميت، ووصف مناقبه التي تميز بها في حياته.
ويعرفها الشاعر أشرف البولاقى بأنها واحد من فنون الأدب الشفاهي الذى حازت فيه المرأة المصرية ـــ دون غيرها ـــ قصب السبق ــ ولا يمكننا أن نصفه إلا أنه مقطوعات غنائية تؤدى تعبيرا عن حالة الحزن والفقد عند الوفاه.
ويعرفها حمدي عبد الرحيم: بأنه أهم فنون الحزن التي تميز بها صعيد مصر، (فن العدودة)، أي البكاء على الميت ورثائه ، ووصف طعم الحياة بدونه، إنك تجد ذلك الفن التلقائى الشعبى تتداوله ألسنة نساء الأقصر فى المآتم، تتناقلنه وتتوارثنه عن آمهاتهن وتورثنه لبناتهن جيلا وراء جيل.
وتشتق «المعددة» اسمها من فن العدودة الذي تمتد آثاره إلى الحضارات القديمة بحسب المؤرخين والباحثين في التراث المصري القديم. حيث لا يقتصر استدعاؤها في المآتم ومراسم العزاء، بل يتم انتدابها في الافراح أيضا .. ويقول الأديب طارق العوضي إن سبب تسمية العدودة هو أن من تقوم بالعديد تعدد صفات ومناقب ومآثر المتوفى سواء ذكرا كان أم أنثى من أجل أن تثير أمواج الحزن بداخل كل من عرفه لأنه حتما سيفتقد كل هذه الصفات الحميدة بوفاة الميت.
وحول مكونات العدودة : وبحسب الاديب عادل صابر، تتكون «العدودة» الواحدة من بيتين من الشعر أو أربعة أغصان كل غصنين منهما بحرفى روي متشابهة، تبدأ النائحة بالغصن الأول و تكاد تصل إلى منتصفه حتى يكملن النساء وراءها باقى الأغصان بمصاحبتها وتختلط الأصوات المبحوحة الحزينة معاً لتصنع سيمفونية من أروع سيمفونيات الحزن الخالدة.
ومن أشهر العبارات المتوارثة في فن العدودة تلك التي يتم استهلالها بالصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم. أو ذكر المولى عز وجل كقولهم: «استغفروه قبل انا ما ابدي، دا الموت ياحبيبه لا بيدك ولا بيدي». و «مكانش يومك يا زينة الناس».
و أبيات قصائد العديد تشمل كل مناحي وحالات الحياة، فهي تصف أحوال الإنسان من لحظة مرض موته، ثم طلوع روحه ثم مرحلة غسله الغسل الشرعي، ثم دفنه، ثم إقامة صوان العزاء، ثم تخيل حالاته تحت التراب، ثم تنطلق المعددة فتقول إنه في موسم الحصاد كان يفعل كذا وكذا من مكارم الأخلاق، وفي ساعات الزواج كان يفعل كذا، وفي أيام البناء والعمران كان يفعل كذا، إنها ترثي كل اللحظات والمواقف التي كان يبرز فيها شخص الراحل الكريم، وتقول على لسان ابنته ما يجب ان تقوله الابنة وكذا على لسان ابنه وكذا على لسان زوجته.
وقال “جريو” قد يظن البعض أن صاحبة العدودة تنطلق هكذا فجأة للبكاء الشعري على الميت، وهذا الظن غير صحيح بالمرة، فالمرأة تعاني ما نعرفه من ضغوط اجتماعية وثقافية، ولذا تجد في حلقة التعديد فرصة للإفراج عن أحزانها الخاصة، العامة، لأن أحزانها هى أحزان بقية النساء.
تقول المعددة:
” قالوا حزينة / أنا قلت من يومي
قسموا النوايب / طلع الكبير كومي”.
والمعنى أنها حزينة مذ كانت، وعندما قاموا بتوزيع المصائب وجدت أن نصيبها هو أكبر المصائب والأحزان!
ـــ ثم بعد رثاء الذات يبدأ القصيد الحزين، الذي يتكون غالبًا من بيتين أو أربعة أبيات، وليس مهمًا التزام قافية واحدة كما في شعر الميراثي الفصيح، لأن المعددة تهتم بوجود التقارب والتوافق الموسيقي بين حركة الحروف.
والمثال على ذلك هو عدودة المرأة التي مات زوجها فجأة ورأسه على صدرها.
فهي تقول:” صبرك عليّ/ لما أقول قولي
ميلتك رقبتك / حرمتني من نومي”.
هنا تتساوى كلمة (قولي) مع كلمة (نومي) في التقفية.
فالتقفية تبدأ بضم الحرف الأول، ثم وجود حرف المد الواو ثم كسر الحرف الثالث، وأخيرًا الكسرة المتمثلة في حرف المد الياء، وهكذا.
بعد التمهيد برثاء الذات، تنخرط المرأة في حديث مع نفسها، إنه ذاته الذي نعرفه باسم (المنولوج)، واضح أن الاحزان هي خير معلم!
تقول المرأة:
” خلفت الطريق ومشيت بالعاني
خلف الطريق الوعد لقاني
خلفت الطريق ومشيت على مهلي
خلف الطريق الوعد نده لي”.
والمعنى أن الإنسان لن يفر من قدره الذي هو الوعد والمكتوب، فأي طريق اختار سيجد قدره أمامه، بل إن القدر سينادي على صاحبه!
ـــ ومن(المنولوج) تذهب المرأة إلى (الديالوج) فتجري حوارًا مع الآخر أو الآخرين، فهي تسأل وتسجل سؤالها، ثم تتلقى الإجابة وتسجلها.
تقول المرأة:
ـ وعملت إيه ساعتين طلوع روحي؟
ـ بقيت أسف الحمضلة بلوحي.
ـ وعملت إيه ساعتين طلوع الروح؟
ـ بقيت أسف الحمضلة باللوح.
المعني هو سؤال عن رد فعل تجاه لحظة الاحتضار.
وإجابة المسئولة أنها كانت تسف الحنظل بلوحها، والسف، عربي قديم وسف الدواء أي تناوله يابساً غير معجون.
والحمضلة تحريف للحنظل ولوحها تعني به كفها، فهي تسف الحنظل سفًا.
وحول أغراض العديد ، يقول الدكتور أحمد سعد جريو، إن فن العديد ينقسم إلى أغراض متنوعة تقال وفقاً لنوعية الراحلين من حيث السن والجنس والقيمة الاجتماعية ونوع الميتة التي لقيها الراحل فمنه مايقال عن الشباب وكبير السن والرجل والمرأة واليتيم والغريب والغريق والقتيل وقليل الخليفة واحوال القبر والغاسل والفحّار وأغراض متعددة أخرى .
وقال عن تصنيف العدودة: يصنف عديد الجنازة بدوره حسب المكان الذى يتم فيه. فهناك «عديد الغسل»، ويجرى قرب الميت حيث يتم غسله. و«عديد الكفن»، ويتم أثناء تجهيز الكفن ولف الميت به. و«عديد القبر» ويكون بجوار المقبرة. و«عديد النصبة» وهو القسم الأكبر من العديد، حيث تجلس النساء معا فى بيت الميت ويُعددن، ويسمى بالمناحة. ويختلف عديد النصبة باختلاف سبب الوفاة كما يختلف باختلاف جنس المتوفى وعمره وحالته الاجتماعية. والندب. إذ لا يسع المرأة حينما تسمع بخبر موت عزيز، إلا أن تلطم خدها، وتشق جيبها، وتدب على قلبها، وتهيل التراب على نفسها، وتضع الطين على رأسها وصدرها، تعبيرا عن الفاجعة. والندب غناء يصاحب لطم الخدود، والدب على القلوب، والأمر يختلف في حالة موت أحد العظماء، وقد تستمر المندبة أياما بعد دفن الميت. وتُشكِّل الندَّابات في هذه الحالة موكبا مؤثرا يطوف أهم دروب القرية، وهذا الطقس تراجع كثيرا الآن.
وذكر “جريو” أنواع العدودة، مشيرا أن “للعديد” أو للبكائيات أنواع كثيرة اختلفت باختلاف البيئات المصرية، وطبيعة سكانها ..”العدودات” أنواع كثيرة حسب نوع الميت ذكر أو أنثى ، وحسب عمره، والطريقة التي مات بها . وقال أن فن «العدودة» له قواعد منظمة، فما يقال في عزاء الشيخ غير الذي يقال في عزاء الشاب، وما ينظم في عزاء الرجال يختلف عن ما يتم نظمه في عزاء النساء.
ــــ تقول عدودة الفتاة التي ماتت على وش جواز مخاطبة قبرها:
“جايلك عروسة محنية الكفوف والكعب .
خدت معاها الحنة وسابت وجع القلب” .
ــــ أما عدودة الأم التي تموت تاركة خلفها أولادها الصغار فتقول:
“غراب البين عالنخيل يبكي،
عاللي تفوت عيالها وتمشي،
غراب البين عالنخيل ينوح،
عاللي تفوت عيالها وتروح ”
ــــ وتقول عدودة الشاب الصغير الذى وافاه الأجل المحتوم :
” ياعود طري واتلوي،
ميل ومال علي الارض،
امبارح كان في وسطنا،
والليلة تحت الارض “.
ـــ وأما من مات زوجها فتقول :
“جلي جوزي لما يقعد جاري..
لما يلاقيني ويسلم علي سلام يرضيني،
وبعد السلام يقعد يخاليني (تقصد يخلو بها).
وتقول الزوجة التي مات زوجها وكانت تراه ذا قدر عند قومه :
“كنت فين يا وعد يا مقدر، .
دي خزانة وبابها مصدر،.
يارجاله عدوا عمايمكم، .
عمه كبيره غايبه عنكم ،
و “طلعت الجبل على ذمة القاهم..
لقيت التراب والحصى سواهم..
كل الناس قربها مسنودة على الحيط..
إلا قربتى مكسورة ومرمية تحت الحيط..
لما دخل الدكتور ببدلته البنى..
كشف عليك الملاية وقال يامري”.
وفي العدودة نوع فريد من السرد، وهو يظهر على صورتين، الصورة الأولى: أن يتضمن السرد ردًا ومثال لك العدودة التي تقول:
” شيعت لك مرسال تجيني تحت البيت”
هنا تقول المرأة لرجلها إنها قد بعث لك برسالة لكي يحضر إلى بيتها.
فيرد الرجل” أنا في قرار اللحد ما حسيت”.
يعتذر عن عدم حضوره لأنه قد مات ولم يشعر بالرسالة التي قامت الزوجة بإرسالها إليه.
ـــ والصورة الثانية: هي سرد خالص يكشف عن حالة المعددة ولا يكون في الصورة رد من الرجل.
تقول المعددة:
“خدت الفطير وشرايح الليمون
إنشوف حبيبي ليكون مغبون
خدت الفطير وشرايح الرمان
إنشوف حبيبي ليكون زعلان”.
وهناك عدودة قبطية جمع وسجل منها 125 عدودة الشاعر أحمد عبد الغنى حيث قام بتبويبها وتصنيف كل مجموعة من العدودات على حدة ، ومن ثم إحالتها إلى أقسام اجتماعية وأنماط ثقافية كوحدات تختص بذاتها ، وذكر أن هناك اختلاف ظاهر ما بين عدودات المراتب الدينية ، فالشماس غير القرابنى غير القمص ، وصولا إلى أعلى المستويات الدينية في قداسة المطران .
ايضا هناك عدودات مخصوصة لأحزان الرحيل على الراهب والراهبة ، كما أن هناك عدودات تقام خصيصا ( للمندبة المسيحية )وهى طقوس حزن عالية المعنى .
ومن أمثلة العدودة القبطية :
مات الحبيب وف ايده انجيله
شاف المسيح ساند ومديله
سافر ولم البركة ف منديله
وكان يا دنيا غرقانك
ولا حد يمد له أيده
ونتمنى يدخل الجنة
ايده ف أيد سيده
ومن أمثلة العدودة القبطية ايضا
الدنيا تبكى على فرقة المطران
والخلق تبكى وتترش بالقطران
أمانة يا مسافر كتر الأحزان
دا العيشة مره والقليب حزنان .
وقال الدكتور أحمد سعد جريو، ان هناك عدة ملامح لفن العدودة منها:
1 ـ أنه غير قابل للتجديد والابداع .
2 ـ أنه مقصور على النساء دون الرجال .
3 ـ الصرخات الحادة التي تنطلق من حناجر النسوة معلنة عن وقوع الخطب والفجيعة .
4 ـ الأسلوب اللغوي ذي الصياغة المتقنة والمحمل بالإيقاع الموسيقى المميز والمختلف عن غيره من إيقاعات الأغاني الشعبية الأخرى .
وعن الابعاد النفسية والاجتماعية والمضامين التربوية للعدودة؛ قال “جريو” أن هناك عدة أبعاد منها:
اولا :الابعاد النفسية للعدودة الشعبية الصعيدية :
أنه من المنظور النفسي في التراث السيكولوجي الغربي .
1 ـ إن الأغاني الحزينة تساعد على التنفيس لمشاعر الحزن المختلفة والتحرر منها وفهم مشاعرنا التي قد تكون مؤلمة, والتعبير عنها والوصول الى مرحلة التعافي,.
2 ــ كما أنها ( الأغاني الحزينة )تعمل على تخفيف القلق وتحسين الحالة النفسية والمزاجية للفرد , علاوة على طبيعة هذه الأغاني كونها بطيئة وأقل صخبا لذلك فهي تعمل على تهدئة الافراد بتذكرهم اللحظات الجيدة في حياتهم مما تثير لديهم مشاعر قوية تساعدهم على الشعور بالتحسن في الأوقات العصيبة وخاصة عند فقدان شخص .
3 ــ كما أنها ( الأغاني الحزينة ) قد تكون مصدرًا للسلوان والاحساس بالراحة لبعض الأشخاص. حيث تمنح الأفراد حسا جمعيا بوجود من يشاركهم مواجهة الصدمات والمواقف الصعبة في الحياة.
4 ـ أن الكثيرين يكرهون سماع الأغاني الحزينة حيث يشعرون بالألم النفسي والإجهاد الجسدي، وأن مثل هذه الأغاني مرتبط بالقلق والحزن واليأس والسلوكيات الهازمة للذات، وهو شعورٌ يترافق مع حدوث خسارة شخصية للمستمع كموت أحد الأحباء *
وأكد الدكتور أحمد سعد جريو، أن العدودة الشعبية تمثل معالجة نفسية عند المرأة حيث انها متنفس للتعبير عن حالة الكبت التي كانت تعيشها في العصور التي كانت العدودة منتشرة ومزدهرة وتمارس طقوسها المرأة في الريف والحضر من أجل تخفيف القلق ، وتحسين الحالة النفسية والمزاجية لها ، خاصة أن المرأة في المجتمع الريفي قديما لم يكن مسموح لها بالتعبير عن مشاعرها تجاه كثير من مناحي الحياه .
وإذا كانت الأغاني الحزينة مصدرا للسلوان والاحساس بالراحة عند سماعها ، فالعدودة الشعبية أغنية حزينة تمنح النساء حسا جمعيا يسهم في زيادة قدرتها على مواجهة الصدمات والمواقف الصعبة في الحياة .
أضاف قائلا: أما الذين يرفضون سماع العدودة فهم من المعرضين بالشعور بالألم النفسي ، والاجهاد الجسدي .. ولعل التغيرات البطيئة قديما خاصة في المظاهر الاجتماعية أتاحت للناس معالجة المشكلات بسهولة مقارنة بحجم التغيرات المتسارعة في هذا العصر والذي نجم عنها ظاهرة الاغتراب النفسي وصعوبة التكيف خاصة لدى كبار السن.
إلا أن الحنين إلى الماضي له أساس سيكولوجي، يطلق عليه مصطلح النوستولجيا أو النوستالجيا (الحنين إلى ماضي مثالي)، والذي ابتكره طالب الطب يوهانس هوفر بعد أن لاحظ أن مجموعة من العمال المأجورين السويسريين المغتربين عن أوطانهم كانت تظهر عليهم أعراض مرضية مشتركة مثل: أرق وعدم انتظام ضربات القلب، وعسر هضم، وتبين فيما بعد أن من أهم أسبابها الشوق والحنين إلى أوطانهم. ويشير علماء النفس أن النولستوجيا هي آلية دفاع يستخدمها العقل لتحسين الحالة النفسية ولتحسين المزاج خاصة عندما نواجه صعوبات في التكيف وعند الشعور بالوحدة، كما أن الحنين للماضي مهم للصحة العقلية والنفسية، وله فوائد جسدية وعاطفية؛ فهو أسلوب ناجح في محاربة الاكتئاب وقتيا ويعزز الثقة بالنفس والنضج الاجتماعي. وقد أثبت العلم الحديث الشعور النوستالجي باستخدام صورة الرنين المغناطيسي للدماغ.
والعدودة هى فن شعبى تحاول المرأة من خلاله استرجاع محاسن الميت في الماضي وما كان عليه من خلق وسلوك قويم كانت هى ترتاح وتسعد به ومعه . من ذلك نستطيع القول أن العدودة الشعبية التى كانت تحرص علي أدائها المرأة انما هو تحسين من حالتها النفسية والمزاجية بفقدانها للمتوفى ، وأنه من خلال العدودة هى تواجه حالة الاكتئاب وتعزز ثقتها بنفسها
ثانيا :الابعاد الاجتماعية للعدودة :
يرى المفكر المصري «عبدالوهاب المسيري» ان مفهومي «التعاقد» و «التراحم» معيار للتمييز بين المجتمعات الحداثية والمجتمعات التي تتسم بدرجة عالية من الإيمانية والإنسانية، وأن التمييز بينهما الذي صاغه المفكر الألماني تونيز ثم طوره ماكس فيبر تمييز دال في فهم المنطق الاجتماعي للأمة الإسلامية والأمم الأخرى – خصوصاً الأفريقية والشرق آسيوية – التي لا تعتبر التعاقدية اساس الجماعة وتنزل الروابط الأسرية والقبيلة والدين منزلة مهمة، بغض النظر عن نمط الإنتاج الاقتصادي الذي تتبناه.
ولا بد ان نميز بين مفهومين للتراحم، فالأنتروبولوجيا حين تصف المجتمعات «التقليدية» بالتراحم تعني ان الروابط فيها تعتمد على تقاليد القرابة والانتماء للجماعة في ظل الأسرة والعائلة والقبيلة، بينما يشكل التعاقد الفردي في الدولة الحديثة الأصل في العلاقات.
ومن هنا نستطيع أن نطلق على المجتمعات التي انتشرت فيها العدودة مجتمعات تصف بالتراحمية حيث أن الروايط فيما بينهم روابط اسرية وعائلية وقبلية تعتمد على تقاليد القرابة والانتماء للجماعة القرابية ، مما يجعل أفراد هذه المجتمعات مترابطة ومتماسكة ومتجانسة بروابط تراحمية لا نفعية .
وأن مشاركة نساء القرية أو المنطقة في العديد إنما يأتي من منطلق الرابط التراحمى الذى يعتمد على تقاليد القرابة والانتماء للجماعة في ظل الآسرة والعائلة والقبيلة .
وهذه المشاركة لها عدة صور منها :
1 ـ مشاركة أقارب الميت في ارتداء الملابس السوداء حزنا على الميت .
2 ـ مشاركة أهل الميت في تشييع الجنازة .
3 ـ مشاركة أهل الميت في اعداد الطعام والشراب لتقديمة للمعزين من الرجال والنساء .
ثالثا : المضامين التربوية للعدودة
للعدودة الشعبية مجموعة من المضامين التربوية التى تساهم بها في تربية النشىء من الفتيات (بشكل غير مباشر ) نذكر منها :
1 ـ تساهم العدودة في تربية النشىء على المشاركة الوجدانية للأحزان الجماعية .
2 ـ تساهم العدودة في تربية النشىء على ضرورة المشاركة في مراسم الاحزان .
3 ـ تساهم العدودة في تربية النشىء على احترام مشاعر الاخرين الحزينة .
4 ـ تساهم العدودة في تربية النشىء على ضرورة ممارسة العادات والتقاليد الخاصة بالأحزان
اختفاء العدودة :
وقال الدكتور جريو، ان «المعددة» اختفت بشكل لافت في السنوات الماضية، بسبب عدم رغبة أهل المتوفي في اتباع مثل هذه العادات، التي يحاول البعض الابتعاد عنها، بسبب تعاليم الدين. فضلًا عن وفاة السيدات كبار السن، اللائي كن يقمن بذلك، كما اختفت بشكل كبير بعد ظهور فيروس كورونا، وعدم اقامة سرادق أو استقبال المعزيين.
وعن اسباب اختفاء فن العدودة ، قال “جريو” إن هناك أسباب تأتي من داخل الفن نفسه وأسباب تأتي من خارجه.
اولا : الاسباب من داخل فن العدودة .
الأسباب التي تأتي من داخله يقف على رأسها.
1 ـ استعصاء الكثير من مفردات هذا الفن على غير أبناء المنطقة التي تعيش بها المعددة .
2 ـ اقتصار العدودته على ابناء القرية أو المنطقة ، وذلك الاستعصاء جعل الفن محاصرًا بحدود جغرافية لا يستطيع تجاوزها، فالعديد في الأقصر وأسوان وسوهاج، غيره في أسيوط والمنيا.
3 ـ تقدم سن الرواه وانه لايوجد من يحفظ عنهم فن التعديد.
فإن لم تبادر المؤسسات المعنية بجمع هذا التراث فسيختفي تمامًا كأنه لم يكن يومًا يملأ الدنيا ويشغل الناس.
ومن الأسباب الخارجية قال “جريو” :
1 ـ أن العدودة مقصوره على حلقات النساء
2 ـ تراجع نظرتنا إلى مورثنا الثقافي( العدودة)، ونعت هذا المنظر بالتخلف والتدني.
وحول انتشار مساحات التعليم والوعى عند الفنيات وعلاقته باستمرار العدودة أو انقطاعها، يقول الدكتور أحمد سعد جريو، إن انتشار التعليم والوعى بشكل واسع وكبير مع بداية القرن الماضي في القرى والنجوع ببناء المدارس ومراكز الشباب بالإضافة إلى القوافل الثقافية وفصول محو الامية، ساعد وبشكل كبير في زيادة أعداد المتعلمين وكذلك زيادة أعداد الذين محو أميتهم وعودة المتسربين من التعليم من خلال بناء مدارس المجتمع والفصل الواحد ، وقد زاد بالتالي عدد الملتحقات بالتعليم من الفتيات .
أضاف أن معظم الباحثين في التراث ممن تناولوا العدودة الشعبية في الصعيد اكدوا أنها في حالة اندثار، وارجعوا ذلك إلى زيادة اعداد الفتيات اللاتي التحقن بالتعليم ، ولم يتعلمن العدودة ولم يشاركن في ممارسة طقوسها لتفرغهن لاكتساب المواد الدراسية بالمدارس التعليمية التى انتشرت في قراهم واتاحت لهن فرص للتعليم العالى والتحاقهن بوظائف في المصالح الحكومية والشركات والقطاع العام والخاص ، وانصرافهن عن العدودة والمشاركة في طقوسها بالإضافة إلى انضمامهن إلى الفكر الذى يؤكد حرمة العدودة ويحذر منها والمشاركة في طقوسها .
وتوصل الدكتور أحمد جريو، إلى عدة نتائج فى نهاية دراسته منها:
1ـ أن العدودة الشعبية تمثل معالجة نفسية عند المرأة حيث انها متنفس للتعبير عن حالة الكبت التي كانت تعيشها في العصور التي كانت العدودة منتشرة ومزدهرة فيها ، حيث تحرك المشاعر الكامنة لإحداث التفريغ النفسي عند المتلقية .
2 ـ أن العدودة هى محاولة لتحسين حالة المرأة النفسية والمزاجية بعد فقدانها للمتوفى ، ومواجه لحالة الاكتئاب وتعزز ثقتها بنفسها
3 ـ أن العدودة الشعبية تعكس التماسك والترابط والمشاركة في الاحزان لأفراد مجتمع العدودة .
4 ـ أن مشاركة نساء القرية أو المنطقة في العديد إنما يأتي من منطلق الرابط التراحمى الذى يعتمد على تقاليد القرابة والانتماء للجماعة في ظل الآسرة والعائلة والقبيلة .
5ـ أن العدودة الشعبية تعتبر من أهم مقومات الهوية والانتماء
6 ـ أن العدودة الشعبية فن نسائى أبدعته المرأة الشعبية ، وجودته وحافظت على أدائه واستمراره .
7 ـ أن هناك بعض التيارات الفكرية تحارب فن العدودة على أنه مخالف للشريعة والدين .
واوصي الدكتور أحمد سعد جريو بعدة توصيات للحفاظ على فن العدودة من الاندثار، منها:
1-إنشاء مكتبة للدراسات الشعبية المتخصصة بفن العدّيد، تكون مهمتها جمع كل الكتب والمطبوعات التي تناولت هذا الفن؛ لتكون عونًا لكل باحث.
2-التوسع في إنشاء المزيد من أقسام الأدب الشعبي في الجامعات المصرية.
3-مناشدة الدولة والمؤسسات الثقافية ومراكز الأبحاث توسيع دائرة الجمع الميداني لفن العدّيد، ورصد مكافآت مجزية للباحثين.
4-مناشدة الدولة والمؤسسات والمثقفين بذل الجهود لمحاربة التيارات المناوئة للتراث الشعبي عامةً، ولفن العدّيد على وجه الخصوص، وهي التيارات التي ترى فيه رجسًا.
5-تشجيع الباحثين على تناول نصوص فن العدّيد تناولاً نقديًا يضيء فيها مساحات جمالية متعلقة بالبيئات والتاريخ والعادات والتقاليد و… و…. إلخ.
6-فتح منافذ النشر على مصراعيها لجهود الباحثين لنشر تحليلاتهم وقراءاتهم لنصوص فن العدّيد، وهي التحليلات والقراءات التي تسلّط الضوء على أهمية هذا الفن باعتباره من أهم مقوّمات الهوية والانتماء، وذلك لإعادة الاعتبار له في عقول الناشئة والأجيال الشابة التي لا تعرف عنه شيئًا.